كن في الدنيا حثيث الخطى شريف السماع كريم النظر .. كن رجلا إن أتوا بعده يقولوا مر وهذا الأثر

الثلاثاء، 5 يناير 2010

المقامات الرحمانية فى الآداب الإخوانية .. د. عبد الرحمن البر

الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُه

الحمدُ للهِ الذي استخلص لنفسهِ صفوةً من خلقِه فدَلَّهُمْ عليْه .. وخصَّهُمْ بالعلمِ والمعرفةِ بهِ فاستعمَلَهم بأحَبِّ الأعمالِ إليه.. وأقْرَبِها من الزُّلْفَى لديْه.. وبَلَّغُهْم من ذلك الغايةَ القُصْوَى.. والذُّرْوَةَ المتناهيةَ العُلْيا..والصلاةُ والسلامُ على مَنْ عنه بَلَّغَ وشَرَعْ ..وبِأَمْرِه قامَ بالحقِّ وصَدَعْ.. ولِمُتَّبِعِيهِ غرسَ وزَرَعْ .. سيدِنا محمدٍ زَيْنِ المؤمنين .. وعلى آله وصحبِه الطيبين الطاهرين .. ومَنْ دعا بدعوتِهِ إلى يوم الدين ..

وبعدُ فقد أتاني صديقي النَّبِيهُ قبل يوميْن .. فسَلَّمَ وحَيَّا وقال : هل بلغك ما جري بين أَخَوَيْنَا عُمَرَ وحُسَيْن ..

قلتُ : مَا بَلَغني عنهما شَيْن .. فَهُمَا أكثرُ من أَخَوَيْن .. بَلْ أحدُهما للآخرِ جِلْدَةٌ بين الأنفِ والعَيْن .. فما الذي جرى .. وهل هو خيرٌ ومعروفٌ أمْ كان أمراً منكرا ؟.

قال صديقي : قاتل اللهُ الوَسْوَاسَ الخنَّاس .. فقد أَوْقَع بينهما الغضبَ والشَّرَّ مِنْ غَيْرِ أن يكونَ له أساس .. هل تتصوَّرُ يا أَعَزَّ الناس .. أنهما جلسا يتضاحكان .. ولِعَذْبِ الحَديثِ والنِّكَاتِ يتبادلان .. ثم أنطق الشيطانُ حُسَيْناً بجملةٍ رديئَة .. فأجابه عمرُ عليها بأُخْرى مُسِيئَة.. وكلمةٌ مِنْ هذا وكلِمةٌ مِنْ ذاك خاليةٌ من اللِّياقَة .. وَمَا هي إلَّا لحظاتٌ حتى نَشِبَتْ بينهما الخِنَاقَة .. ونَسِي كلٌّ منهما حَقَّ الآخرِ عليه .. وأَفْلَتَت الكلماتُ واللَّكماتُ مِنْ لسانِه ويدَيْه .. وجميعُ الحضورِ صاروا في ذُهُول .. مما يفعلُ كلٌّ منهما ويقول .. ولوْلا أنني حضرتُ الواقِعَة .. مَا كنتُ لِأُصَدِّقَ هذهِ الفاجِعَة.. أَبَعْدَ كلِّ هذا الحبِّ والإِخاء.. يتصرَّفان تَصَرُّفَ الأَعْداءِ والبُعَداء.

قلتُ : يا أصدقَ الخِلَّان .. هذا كلُّه مِنْ جرائِرِ اللسان .. هو الموُردُ للمرءِ مواردَ العَطَب.. وهو الذي يُظْهِر الغَلَطَ وسوءَ الْأَدَب .. تخرجُ منه الكلماتُ بلا رَوِيَّة .. فتُفْسِدُ العَلاقاتِ الأُخَوِيَّة .. ولهذا أَمَرَنَا سيدُ البشرية صلى الله عليه وسلم .. ألَّا نقولَ به هُجْراً أوْ نُكْرا..وألَّا ننطقَ به إلَّا خيْرا ..فقالَ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالَّلهِ وَالْيَوْم ِالْآَخرِ ِحقَّ الإيمان.. فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ ولْيحفظِ اللسان .

ومَنْ حَفظ يا أخي لسانَه.. أراحَ نفسَه وأَرْضَى إِخْوَانَه..وقَرَّبَ منه أصدقاءَه وأقاربَه وجيرانَه.. والصمتُ عمَّا لا يفيدُ وقِلَّةُ الكَلَام .. خيرٌ من الحديثِ الذي يقطعُ الصِّلَاتِ والأرحام .. والعاقِلُ يُبْصِرُ ما يقولُ ويتدَبَّر.. ولا يُطْلِقُ بالحديثِ لسانَه مِنْ غيرِ أنْ يتَفَكَّر

أَقْلِلْ كَلَامَكَ وَاسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهِ ... إِنَّ الْبَلاَءَ بِبَعْضِهُ مَقْرُونُ
وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَفِظْ مِنْ غَيِّهِ ... حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ مَسْجُونُ
وَكِّلْ فُؤَادَكَ بِاللِّسَانِ، وَقُلْ لَهُ ... إِنَّ الْكَلَامَ عَلَيْكُمَا مَوْزُونُ
فَزِِنَاهُ وَلْيَكُ مُحْكَماً ذَا قِلَّةٍ ... إِنَّ الْبَلَاغَةَ فِي الْقَلِيلِ تَكُونُ


فمَنْ أطلَقَ لسانَه بالكلامِ فإنه لا شَكَّ هالِك .. ويرحمُ اللهُ إمامَ دارِ الهجرةِ سيِّدِنا الإِمامِ مالِك .. حيثُ قال كلاماً يُوزَن باليَوَاقِيتِ والدُّرّ .. : كُلُّ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِفَضْلِهِ إِلَّا الْكَلَامَ فَإِنَّ فَضْلَه يَضُرّ..

وقال شيخُ الزاهدينَ الْفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ الإِمَام..: شَيْئَانِ يُقَسِّيَانِ الْقَلْبَ: كَثْرَةُ الْأَكْلِ، وَكَثْرَةُ الْكَلَام..

قَدْ أَرَى كَثْرَةَ الْكَلَامِ قَبِيحاً ... كُلُّ قَوْلٍ يَشِينُهُ الْإِكْثَارُ

وهذا لقمانُ الحكيمُ يقول ..: الصَّمْتَُ حِكْمَةٌ وَفَاعِلُهُ قَلِيل..وَقَدْ جَاءَ فِي حِكَمِ آلِ دَاوُد ..أَيُّها الصَّدِيقُ الوَدُود .. : حَقٌّ على العاقلِ أنْ يكونَ عارفاً بزمانِه .. حافِظاً لِلِسَانِه .. مُقْبِلاً على شَأنِه .

قال صديقي : لكنَّ اللسانَ يا شيْخِي أداةٌ يظهرُ بها البيانُ والتفسير.. وشاهدٌ يُخْبِرُ عمَّا في الضمير.. وناطقٌ يُرَدُّ به الجواب.. وحاكمٌ يُفْصَلُ به الخطاب.. وواصِفٌ تُعْرَفُ به الأشياء.. فكيفَ إذاً يكونُ أصلَ البلاء ؟.

قلت : لا يزالُ الإنسانُ يا صاحبي مُهَاباً في الناسِ ما لمْ ينطِق .. فإذا تحدَّث كشَفَ حقيقتَه القولُ والمنطق ..ولذلك قِيل .. أيها الصديقُ النبيل .. العاقلُ يلزمُ الصمتَ إلى أنْ يلزمَهُ التَّكَلُّم.. حتَّى لا يُضْطَرَّ بعدَ الكلامِ إلى التَّنَدُّم .. فما أكثرَ مَنْ نطقَ فنَدِم .. وما أكثرَ مَنْ سكتَ فسَلِم.. وأطولُ النَّاسِ شقاءً.. وأعظمُهم بلاءً ..مَن ابْتُلِىَ بلسانٍ مُطْلَق.. وفُؤَادٍ مُطْبَق.. وللهِ دَرُّ الرجلِ المبارَك .. عبدِ الله بنِ المبارَك .. إذ قال:

تَعَاهَدْ لِسَانَكَ إِنَّ اللِّسَانَ ... سَرِيعٌ إِلَى الْمَرْءِ فِي قَتْلِهِ
وَهَذَا اللِّسَانُ بَرِيِدُ الْفُؤَادِ ... يَدُلُّ الرِّجَالَ عَلَى عَقْلِهِ
واسْمَعْ لهذه الحِكَمِ الكريمة .. والنصائحِ النافعةِ العظيمة ..
إِنْ كَانَ يُعْجِبُكَ السُّكُوتُ فَإِنَّهُ ... قَدْ كَانَ يُعْجِبُ قَبْلَكَ الْأَخْيَارَا
وَلَئِنْ نَدِمْتَ عَلَى سُكُوتٍ مَرَّةً ... فَلَقَدْ نَدِمْتََ عَلَى الْكَلَامِ مِرَارَا
إِنَّ السُّكُوتَ سَلَامَةٌ، وَلَرُبَّمَا ... زَرَعَ الْكَلَامُ عَدَاوَةً وَضِرَارَا
وَإِذَا تَقَرَّبَ خَاسِرٌ مِنْ خَاسِرٍ ... زَادَا بِذَاكَ خَسَارَةْ وَتَبَارَا


قال صاحبي : صدقتَ فيما ذكرْتَ للِّسانِ مِنْ آفات .. لكنه مع ذلك شافعٌ تُدْرَكُ به الحاجات.. ونازِعٌ يَجْذِبُ المَوَدَّات .. وحاصِدٌ تَذْهَبُ به الأضغان.. ومُسَلٍّ يُذَكِّى القلوبَ، ومُعَزٍّ تُرَدُّ به الأحزان.. واللهُ جلَّ وعزَّ رفعَ على سائرِ الجوارح جارحةَ اللسان .. فليس منها شيءٌ أعظمُ أجراً منه إذا أطاع الرحمن .

قلت : صدقْتَ أيها المحبوب ..وهو أيضاً أعظمُ الجوارحِ اكتساباً للذنوب .. ولَرُبَّمَا قَتَلَتْ كلمةٌ قائلَها أو كاتبَها .. إذا لم يَعْرِفْهَا ويَتَدَبَّرْ عواقبَها .. ورُبَّ كلمةٍ سَلبتْ نعمة ..ولَرُبَّ عبارةٍ أهلكَتْ أمة ..ولقد أحسنَ الذي يقول محرِّضاً على طول السكوت:

مَا زَلَّ ذُو صَمْتٍ، وَمَا مِنْ مُكْثِرٍ ... إِلَّا يَزِلُّ، وَمَا يُعَابُ صَمُوتُ
إِنْ كَانَ مَنْطِقُ نَاطِقٍ مِنْ فِضَّةٍ ... فَالصَّمْتُ دُرٌّ زَانَهُ الْيَاقُوتُ

وحذَّر الفاروقُ عمرُ من الخطأ الذي يحصل منه ..فقال للأحْنَفِ بن قيْسٍ رضي الله عنه.. : مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ فَقَلَّ حَيَاؤُهُ وَكَثُرَ ذَنْبُه.. وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، فمات قلبُه .

قال صديقي : فكيف يَمْنَعُ الإنسانُ من النطق اللسان.. وكيف يحبِسُ ما يجري على الخاطر من الحديث والبيان ؟.

قلت : قد جعل اللَّهُ لِكُلِّ شيءٍ بابيْن.. وجعل للِّسانِ أربعةً اثنيْن مِنْ بعدِ اثنيْن.. فجعلَ الشَّفَتَيْنِ مِصْرَاعَيْن.. وجعلَ الأسنانَ مِصْرَاعَيْن ..وقد قالت الحكماءُ أيها النبيه .. ليس بعاقلٍ مَنْ لَا يُنْصِفُ أُذُنَيْهِ مِنْ فِيه.. وقد جُعلت للإنسان أذنان اثنان.. ولم يُجْعَلْ له أيها العاقلُ غيرُ لسان.. فحَقُّه أنْ يكونَ له ثلثُ الكلامِ وللأُذُنَيْن الثلثان .. لأنه إذا قال ربما اضطُرَّ إلى الندامة.. وإنْ لم يَقُلْ فقدْ ضَمِنَ بصمتِه السلامة .. ورحم اللَّهُ ابنَ مسعودٍ فيما قال وأَبَان .. مَا شَيْءٌ أَحْوَجُ إِلَى طُولِ حَبْسٍ مِنْ لِسَان .


لَعَمْرُكَ مَا ََشْيٌء عَلِمْتُ مَكَانَهُ ... أَحَقُّ بِسِجْنٍ مِنْ لِسَانٍ مُذَلَّلِ
عَلَى فِيكَ مِمَّا لَيْسَ يَعْنِيكَ شَأْنُهُ ... بِقُفْلٍ وَثِيقٍ مَا اسْتَطَعْتَ فَأَقْفِلِ
فَرُبَّ كَلَامٍ قَدْ جَرَى مِنْ مُمَازِحٍ ... فَسَاقَ إِلَيْهِ سَهْمَ حَتْفٍ مُعَجَّلِ
وَللَصَّمْتُ خَيْرٌ مِنْ كَلَامٍ بِمَأْثَمٍ ... فَكُنْ صَامِتاً تَسْلَمْ، وَإِنْ قُلْتَ فَاعْدِِِلِ


وَكَانَ شابٌّ يحضُرُ مجلسَ عمرَ بنِ الخطاب فيسمعُ ويتعَلَّم.. ثم ينصرفُ من غير أن ينطِقَ أوْ يتكلَّم.. ففطِنَ له عمر ، فقال: ما بالك تسمعُ وتتعَلَّم.. ثم تنصرف من قبل أن تتكَلَّم.. فقال: إني أحضرُ فَأَتَوَقَّى وَأَتَنَقَّى، وَأَصْمُتُ فَأَسْلَم .


أَنْتَ مِنَ الصَّمْتِ آمِنُ الزَّلَلِِ ... وَمِنْ كَثِيرِ الْكَلَامِ فِي وَجَلِِ
لَا تَقُلِ الْقَوْلَ ثُمَّ تُتْبِعُهُ ... يَا لَيْتَ مَا كُنْتُ قُلْتُ لَمْ أَقُلِ


وقد قِيل : لسانُ العاقلِ يكونُ وراءَ قلبِه.. فَإِذا أرادَ القَوْلَ رجعَ إلى قَلْبِه.. فإن كان له قال، وإلا أمسك اللسان.. والجاهلُ قلبُه في طَرَفِ اللسان.. ما أتى على لسانِه تكلَّم به من غير تَبَصُّرٍ ولا إِمْعان ..ومَنْ حفظ لسانَه يا صديقي زَانَه.. وما عَقَلَ دِينَه مَنْ لَمْ يحفظْ لسانَه.

قال صديقي رفع الله من شانِه .. قد علمتُ الآنَ لماذا قال الأَوْزَاعيُّ إمامُ أهل زمانِه .. مَا بُلِيَ أَحَدٌ فِي دِينِهِ بِبَلَاءٍ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ طَلَاقَةِ لِسَانِه.. ورحمة الله وبركاته على العالم المبارك .. عبد الله بن المبارك .. الذي قال ..


اغْتَنِمْ رَكْعَتَيْنِ زُلْفَى إِلَى اللهِ إِذَا كُنْتَ فَارِغاً مُسْتَرِيحَا
وَإِذَا هَمَمْتَ بِالنُّطْقِ فِي الْبَاطِلِ فَاجْعَلْ مَكَانَهُ تَسْبِيحَا
فَاغْتِنَامُ السُّكُوتِ أَفْضَلُ مِنْ خَوْضٍ وَإِنْ كُنْتَ بِالْحَدِيثِ فَصِيحَا


قلت : صدقتَ ومن هنا أُتِيَ الأَخَوَان .. عمرُ وحسيْنٌ واستزلَّهُما الشيطان .. فنطقا بالباطل والبُهْتان ..ولو أمسك كلٌّ منهما لسانَه .. وحمى من الكلامِ الفارغِ منطقَه وبيانَه .. ما كان الذي كان .. ولا وقعت بينهما الأضغان .. وكم أوردَ اللسانُ الأممَ الحروب .. وكم غيرتْ ثمراتُ اللسان القلوب .. ولسانُ المرء إذا صَلُحَ أو فَسَدَ أثَّر ذلك على سائر أحواله..و ما صلح منطقُ رجل إلا عُرف ذلك في سائر أعماله..

فَآثِرِ الصَّمْتَ مَا اسْتَطَعْتَ، فَقَدْ ... يُؤْثَرُ قَوْ ُالحَكِيمِ فِي الْكُتُبِ
لَوْ كَانَ بَعْضُ الْكَلَامِ مِنْ وَرِقٍ ... لَكَانَ جُلُّ السُّكُوتِ مِنْ ذَهَبِ

وفي أقرب لقاء .. أخبرك عن توجيه سيد الأنبياء .. وأصحابه الأصفياء الأتقياء .. عما يصلح اللسان .. ويريح القلب والجنان .

وفي الختام ..أبتهل إلى رب الأنام ..أن يجمع لنا ولإخواننا الكلمة ..وأن يحمينا من الفتنة والنقمة.. وأن يعيذنا من التفرق والبلاء..وأن يدفع عنا الإثم والشقاء .. والحمد أولا وآخرا لربي واسع العطاء .. ومسبغ النعماء .. وأزكى الصلاة وأتم السلام على إمام الأنبياء ..وعترته وآل بيته النجباء .. وأصحابه البررة الأتقياء .. ومن سلك سبيلهم ما بقيت الأرض والسماء ..

ليست هناك تعليقات: