كن في الدنيا حثيث الخطى شريف السماع كريم النظر .. كن رجلا إن أتوا بعده يقولوا مر وهذا الأثر

الخميس، 24 ديسمبر 2009

دروس مستفادة من رحلة الهجرة 5

إعدلوا هو أقرب للتقوى , أينما تولي .. أنت داعية

في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي t بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلا عن غيره

وإنه من الممكن أن يتبادر إلى الذهن أن هذه الودائع هي حق للمهاجرين الذين تركوا أموالهم ودورهم بمكة وليس هذا تفكير الداعية الأمين الذي يفهم قول الله عز وجل : " ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى .. "

إنه لابد ألا ننسى دوما أننا دعاة إلى الله وأن أول من يطالب بتنفيذ تعاليم هذا الدين هو نحن وإن أمة اليهود سقطوا في القيام بواجبهم تجاه الدين من هذه الزاوية ..

في توراتهم المحرفة في سفر التثنية يقولوا : للأجنبي تقرض بربا أما أخيك فلا تقرض بربا .. لا تأكلوا جثة ما , أعطها للغريب الذي ببابك يأكلها ..

وفي سفر اللاويين : أبناء المستوطنين النازلين عندكم تستعبدونهم أبد الدهر وتتخذون منهم عبيدا وإماء لكم أما إخوتكم من بني إسرائيل فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف ..

أحيانا تغيب عنا هذه القيمة عندما نتعرض إلى الكثير من الإيذاء فيخرجنا ذلك إلى أن نحول التدافع ما بيننا وبين الباطل إلى معركة شخصية نتناسى فيها الغاية وسمو الهدف ونبل الوسيلة وليس هذا مسلك الدعاة المخلصين المصلحين المخاطبين بهذه القيم لتكون شعارا لهم عنوانهم ولو في صراعهم مع الباطل " ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى "

يقول صاحب الظلال : إن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية ; تقيم العدل في الأرض , غير متأثرة بمودة أو شنآن , وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة .. وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم ; فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم ; لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب ; وغير ناظرة إلا إلى الله وتقواه ..

أينما تولي .. أنت داعية

وهنا نكمل المعنى ويتضح الأمر فالرسول ( ص) وهو مهاجر إلى الله عز وجل كما لم ينسى أنه مطالب بإقامة القيم التي يحملها ويبذلها حتى فيمن آذوه وأخرجوه لم ينسى كذلك أنه داعية حتى وهو مطارد مخرج من قومه لا يعرف ما ستؤل إليه الأمور بعد إلا أنه يثق بموعود الله ..

ذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة، وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام، وفتح الله لقومه - أَسْلَم- على يديه أبواب الهداية

وفي طريق الهجرة أسلم لصّان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان في طريقه صلى الله عليه وسلم بالقرب من المدينة لِصَّان من أسلم يقال لهما المهانان، فقصدهما صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان، فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة

ومنما يؤكد هذا المعنى موقفه (ص) مع أم معبد :

يقول كتاب السير أنه بعد ثلاث ليالٍ من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب ويئس المشركون من الوصول إلى رسول الله،وفي الطريق إلى المدينة مر النبي صلى الله عليه وسلم بأم معبد في وادي قديد حيث مساكن خزاعة، وهي أخت خنيس بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثير: « وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا»

فعن خالد بن خنيس الخزاعي t صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة .. مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت كهلة كبيرة السن قوية عاقلة تحتبي أي تجلس وتضم يديها إحداهما إلى الأخرى على ركبتيها، وتلك جلسة الأعراب بفناء القبة ثم تسقي وتطعم، فسألوهما لحماً وتمراً، ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم قد نفد زادهم ودخلوا على سنة جدب فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في جانب الخيمة فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: «فهل بها من لبن؟» قالت: هي أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم، إن رأيت بها حلباً فاحلبها.

فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله عز وجل، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه ( فتحت ما بين رجليها للحلب ) ، ودرت واجترت ودعا بإناء يُرْبِض الرهط أي يسقيهم حتى يناموا ، فحلب فيها ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم صلى الله عليه ثم حلب فيها ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.

فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافاً ، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاة عازب حيال ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد قالت: ووصفت النبي (ص) ( راجع القصة في كتب السيرة )

قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.

وقد روي أنها كثرت غنمها، ونمت حتى جلبت منها جلباً إلى المدينة، فمر أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها. وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها خنيس واستشهد يوم الفتح

وفي قصة يوسف وقد ألقي في السجن مظلوما إلا أنه إغتنم أول فرصة ليدعوا إلى الله بالقول الصادق بعد أن دعا إليه بالسمت الحسن وهو ما أقر به صاحباه " إنا نراك من المحسنسن "

دروس مستفادة من الهجرة 4

4 . ليس الدهاء يوصلنا بل التوكل وان نقول اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا

كلمة للأستاذ عمر التلمساني رحمه الله تمثل حقيقة هامة في العمل الإسلامي أنه ليس بالدهاء وفقط نصل وإنما التدبير وأن نتوكل ونقول اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا ..

فهي حقيقة تربط المؤمن دائما بصاحب اليد العليا في الوجود سبحانه وبحمده فمع التخطيط والتدبير المحكمين من النبي (ص) إلا أن المشركين وصلوا إليه وكل مره يصرفهم الله سبحانه وتعالى والنبي يستجلب هذه المعية بالثقة التامة فيقول لأبو بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ..

يقول كتاب السير أن قريش أعلنت في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيًّا أو ميتًا، فله مائة ناقة، وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب الذين في ضواحي مكة، وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب، جعله يرجع مدافعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان جاهداً عليه.

قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رُسُل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، دية كل منها لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أَسْوِدة بالساحل أُراها محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم: فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهى من وراء رابية فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها، أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام؛ تُقَرّب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضتْ فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها دخان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يأخذا مني شيئا ولم يسألاني، إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي في كتاب آمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من جلد ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالحكمة الدائمة التي نخرج بها هنا أنه لابد من التدبير ولكن لنحوط هذا التدبير بعناية الله نحتاج الثقة في أنه ليس الدهاء يوصلنا بل التوكل وأن نقول اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا

دروس مستفادة من رحلة الهجرة 3

3 . أثر الحماية الربانية

روى الإمام أحمد عن ابن عباس: (أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل جبل ثور اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه)

وهذه من جنود الله عز وجل التي يخذل بها الباطل، وينصر به الحق؛ لأنه جنود الله جلت قدرته أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتثمل في ضخامتها فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب، قال تعالى: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) [المدثر: 31]. أي وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فجنود الله غير متناهية؛ لأن مقدوراته غير متناهية كما أنه لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة.

بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها قال تعالى: ( وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) [الإسراء: 80].

وفي هذه الآية الكريمة دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها وما بين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته، بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص ( وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) قوة وهيبة أستعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة ( مِن لَّدُنْكَ ) تصور القرب والاتصال بالله، والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه.

وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يُهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه، ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله، والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان، والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه

وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم الصديق بمعية الله لهما؛ فعن أبي بكر الصديق t قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟».

وفي رواية: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما».

وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 40].

دروس مستفادة من رحلة الهجرة 2

2 . الأشياء ليست بشكلها الظاهري ولكن بقدر الله فيها

نعم لم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالشخص فحسب، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدرى ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان‏ وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك ..

وإننا نقرأ هجرة أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق ـ وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره ‏:‏ هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه‏؟‏ علام نتركك تسير بها في البلاد‏؟‏ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم،فقالوا‏:‏ لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به‏.‏ وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة‏.‏

وكانت أم سلمة رضي الله عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غداة بالأبطح تبكى حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال‏:‏ ألا تخرجون هذه المسكينة‏؟‏ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها‏:‏ الحقى بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة ـ رحلة تبلغ حوالى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الأودية ـ وليس معها أحد من خلق الله ‏.‏ حتى إذا كانت بالتَّنْعِيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء، قال‏:‏ زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعًا إلى مكة‏.‏

وهاجر صُهَيْب بن سِنان الرومى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة قال له كفار قريش‏:‏ أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك‏؟‏ والله لا يكون ذلك‏.‏ فقال لهم صهيب‏:‏ أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فأني قد جعلت لكم مالى، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏[ ‏ربح صهيب، ربح صهيب ‏]‏‏.‏

حتى هجرة النبي (ص) نفسه وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالحزورة في سوق مكة، وقال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت » بل الأكثر من ذلك الملأ من قريش في دار الدعوة يتمالئون لاغتيال النبي (ص) وإبليس حاضر وخطة محكمة وعزم على الخلاص من النبي الكريم ولم يبقى في مكة يد تدفع ..

كل هذا يلقي في نفوس من يعايش هذا الجو الرهيب أنه إنكسار للدعوة ومصاب كبير لكل للمؤمنين والنبي (ص) معهم وهذا ظاهر الأمر فحسب ولكن في غمار هذه الأحداث قدر الله سابق " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي " فخرجت الدعوة من مكة نعم ولكن من ضيق مكة إلى سعة الأرض جميعا ..

دروس مستفادة من رحلة الهجرة 1

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والله أكبر ولله الحمد ... وبعد ..

تمر بنا عما قريب ذكرى هجرة النبي (ص) المباركة هذا الحدث الذي غير وجه التاريخ والذي كان إيذانا ببدأ مرحلة جديدة حيث تبدأ الأمة الإسلامية بتسلم راية الهداية ووتخذ وضعيتها بين الأمم كأمة شاهدة من قبل المولى تبارك وتعالى وتتعلم كيف تؤدي هذا الدور وما يتطلبه من إيمان ثابت وتضحية عزيزة وجهاد طويل وتتربى على عوامل الخيرية التي خصها الله بها " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتأمنون بالله .. "

وهذه الرحلة بملامحها البسيطة وتخطيطها المتقن والعناية الإلاهية التي حاطتها أولا عن آخر تحمل دروسا عدة وفوائد جمة نتناول طرفا منها في هذا المقال ..

1 . وطن الداعية حيث مصلحة الدعوة .. لماذا الهجرة ؟!

إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدعا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة.

وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته

وما أحوجنا شباب الحركة الإسلامية اليوم أن نفقه هذا الدرس ونحن نعمل لله عز وجل إن الأخ أحيانا يتبرم إذا وظف في عمل أو أختير لمهمة لا يحبها أو يجد في نفسه أنه أنسب في مهمة أخرى ويخرج به هذا إلى الرفض أو إلى الأداء الذي لا روح فيه

يقول الشيخ الغزالي : إن الرجال الذين تنبع سعادتهم من قلوبهم ويرتبطون أمام ضمائرهم بمبادئهم لا يكرمون بيئة بعينها إلا أن تكون صدى لما يرون ..

وهنا أجد موقف ضمرة بن جندب الشيخ الذي جاوز السن يسمع وهو بمكة لم يهاجر قول الله عز وجل : " إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وسائت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " النساء

فقال لبنيه احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لبأهتدي إلى الطريق والله لا أبيتن الليلة بمكة فحملوه على سرير فمات بالتنعيم .. ولما أدركه الموت أخذ بصفقة يمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك (ص)

فلما بلغ ذلك الصحابة قالوا : لو توفي بالمدينة لكان أتم أجره فنزل قول الله عز وجل : " ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع اجره على الله وكان الله غفورا رحيما "

إن موقف ضمرة لم يعقب عليه القرآن بهذه المباشرة والصراحة إلا لأنه صاحب شعور مرهف يدرك به أنه هو المخاطب بآيات الله وكأنها لم تنزل لغيره وكأنه ليس له عذر وهو الطاعن في السن الذي لا يحتمل السفر ولكنه إدراك المؤمن وشعوره بانتماءه لهذا الدين ..