كن في الدنيا حثيث الخطى شريف السماع كريم النظر .. كن رجلا إن أتوا بعده يقولوا مر وهذا الأثر

الخميس، 18 سبتمبر 2008

الإعتكاف









الإعـتـكـاف

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
أيها الأحبة الكرام ها قد مضى من رمضان ثلثاه وكأني بنا منذ أيام ونحن نستعد لرمضان ونختبر أولى لياليه وإذا بعشرون ليله منه قد تفلتت من أيدينا ..

فهل شعرنا ونحن وإياكم على مشارف الثلث الآخر من رمضان أن الله قد بلغنا رمضان ؟!
هل شعرنا بأن الله جعلنا ممن أدرك خير هذا الشهر ؟؟!!

هل جلست خاليا إلا من الله في ساعة تذكر الله ففاضت عيناك ؟

هل إنزويت في ركن من أركان بيتك أو في مصلاك تقرأ القرآن فرق قلبك وخشع جسدك ووجدت أنك أنت أنت المخاطب بهذه الآيات فتمر بأمرالله لك فتقول : لبيك اللهم لبيك .. وتمر بالنهي فتقول : انتهيت ربي انتهيت ..

هل سجدت سجدة في ظلمة الليل حيث لا يراك أحد فسجد قلبك وسمعك وبصرك وعصبك ومخك لله رب العالمين فوقع في نفسك أنها لربما تكون السجدة الموعودة التي أخبر عنها النبي (ص) فقال :
" لو تقبل الله من عبد سجدة لأدخله بها الجنة " ..

هل قمت بين يدي مولاك عز وجل والناس نيام والخليون هجع وقد أرخى الليل سدوله وأختلط الظلام وأفترشت الفرش وخلا كل حبيب بحبيه فناجيته بكلامه وتملقته بإنعامه وشكوت إليه حال قلبك وجمود عينيك ولذت به وإذا بالعبرات تخنق صوتك وإذا بك تصرخ باكيا رباه ليس لي رب غيرك أرجوه وليس لي إلاه غيرك أدعوه أدعوك داء البائس الفقير المستغيث المستجير دعاء من ذل لك جسده وخشع لك قلبه ورغم لك أنفه وفاضت لك عبرته لا تحرمني خير هذا الشهر فأكون من المحرومين لا تطردني عنك فأكون من الضالين ..

ولأن الإجابات ستكون مؤلمة ولأننا بالفعل قد بعدت الشقة بيننا وبين كنوز هذا الشهر وأعطياته ولأن الله رحيم بنا جعل لنا فرصة أخيرة لمن أراد أن يستدرك ما فاته ويلحق بركب الفائزين ..

ومن هنا كانت عبادة الإعتكاف فما حقيقة الإعتكاف ؟!

يقول ابن رجب الحنبلي : حقيقة الإعتكاف قطع العلائق عن الخلائق للإتصال بخدمة الخالق ..
فهو التفرغ الكامل إلا من الله في الحديث القدسي , يقول الله عز وجل : " عبدي تفرغ لعبادتي أملا قلبك غنا وإلا تفعل ملأت قلبك شغلا ثم لا يكون إلا ما قسمته لك "
و يحدث كعب الأحبار عن عبادة الخلوة فيقول : من تعبد لله ليله حيث لا يراه أحد يعرفه خرج من ذنوبه كما يخرج من ليلته ..
ويقول بشر بن الحارث : من ذاق حلاوة الخلوة بالله لأستوحش إليها من نفسه ..
ويسأل النبي (ص) عن الإعتكاف فيقول : " هو يعكف الذنوب جميعا "
وتحدثنا أمنا عائشة وهي تصف حال النبي (ص) إذا دخل العشر الأواخر من رمضان فتقول : " كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المأزر " متفق عليه
ويقول ابن عباس : من إعتكف لله يوما باعد الله بينه وبين النار قدر ثلاث خنادق قدر الخندق ما بين السماء والأرض ..
وفيه المكث في المساجد والنبي (ص) يقول : " المسجد بيت كل تقي وقد تكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة " صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبو الدرداء

وفيه تجد النفوس طريق العودة إلى الله فيه البكاء على الآثام والندم على الخطيئة والإستغفار من الذنب وما أعجب موقف الحليم الكريم سبحانه وتعالى من الذين قالوا : " إن الله ثالث ثلاثة " ومن الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم فيقول الله عنهم : " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه " هكذا بمجرد أن تهم بالعودة إليه حتى يتلقاك من بعيد ويقابل الشبر منك توبة واستغفارا بذراع منه مغفرة ورحمة والذراع بباع وإن أتيته تمشي أتاك سبحانه وتعالى هرولة ..
ثم فوق ذلك كله يجعل نفسه عند ظنك به كما في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة : يقول الله عز وجل : " أنا عند ظن عبدي بي " وفي رواية " فليظن بي ما شاء "
قال مجاهد : يؤمر بالعبد يوم القيامة إلى النار فيقول ما كان هذا ظني ؟! فيقول وما كان ظنك : فيقول أن تغفر لي !! فيقول الله عز وجل : " خلو سبيله " ..

وفيه ليلة القدر : التي جعلها الله خير من ألف شهر تتنزل فيها الملائكة وفيهم جبريل يصافح أهل الصدقة وأهل البر ومن صافحه جبريل يرق قلبه وتكثر دموعه ..
وسماها " مباركة " وأنزل فيها القرآن ..
" إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم " الدخان 3-6
وجعلها ليلة للموفقين فلا يدرك ليلة القدر إلا من له عند الله قدر , يقول النبي (ص) : " وفيه ليلة هي خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم "

أليس من تنبه إلى عظم هذه العبادة استطاع أن يستدرك ما فاته وأن يلحق بالركب المرتحل إلى الله ..

ما زالت الفرصة سانحة وما زال السوق قائما فبادر قبل أن ينفض وليكن دعائك أيام هذه العشر دعاء النبي (ص) الذي وصى به أمنا عائشة : " قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني "

وليكن حالك حال النبي (ص) الذي تصفه أمن عائشة فتقول : " كان رسول الله (ص) يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها "
ولسنا بأغنى عن هذه النفحة الربانية من النبي (ص) وليس بأحوج إليها منا ..
فجدوا واستعدوا وادعوا الله أن يجعلنا من الموفقين لليلة القدر ..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين



الجمعة، 5 سبتمبر 2008

أساليب التربية المؤثرة .. في مرحلة الطفولة



القدوة
( العدوى الوجدانية )



للقدوة الحسنة أثر كبير في تربية الطفل إذ أنه كثيرا ما يحاول عن طريق مراقبة سلوكيات المربي أن يحكم على الأشياء ويقلد المربي في كل شيء حتى في ملبسه وطريقة كلامه ..
ولذلك نجد تركيزا شديدا في المنهج القرآني وفي منهج النبي (ص) على أهمية القدوة الحسنة ..
يقول الله عز وجل :
" يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " الصف
" أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " البقرة
وعن أسامة بن زيد أنه سمع النبي (ص) يقول : " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر , قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه " رواه البخاري

القدوة في المنهج التربوي للنبي (ص) ..

1 - أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه , عن رسول الله (ص) أنه قال : " من قال لصبي تعال هاك أعطك ثم لم يعطه فهي كذبة "
2 - أخرج أبو داود عن عبد الله بن عامر قال : دعتني أمي يوما ورسول الله (ص) قاعد في بيتنا فقالت: تعال أعطك فقال لها النبي (ص) : ما أردت أن تعطيه ؟ " قالت: أردت أن أعطيه تمرا .. فقال لها النبي (ص) : " أما إنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة "
3 - بناء المسجد : كان النبي (ص) يعمل بيده مع أصحابه في بناء المسجد وهو يقول : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة " رواه مسلم
فكان أثر هذه القدوة المباشر أن نشط الصحابة للعمل وهم يقولون : لإن قعدنا والرسول يعمل .. لذاك منا العمل المضلل ..

إن أردت أن تكون إمامي .. فسر أمامي

ونجد في الممارسات الرائدة التي قام بها سلف الأمة دليلا قاطعا على أهمية القدوة وأثرها في التربية حتى قالوا :
تسبق أنوار الحكماء أقوالهم فحيث صار التنوير وصل التعبير ..

روي أن عتبة بن أبي سفيان قال لمؤدب ولده : ليكن أول ما تبدأ به من تربيتهم إصلاحك لنفسك فإن أعينهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت .. (نصيحة الملوك للمواردي)
كان أبا يزيد طيفور بن عيسى البسطامي رضي الله عنه لما حفظ : " يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا " قال لأبيه : يا أبت من الذي قال له الله تعالى هذا ؟ قال: يا بني ذلك النبي (ص) فقال : يا أبت فمالك لا تقوم الليل كما صنع النبي (ص) ؟ فقال : يا بني لإن قيام الليل خص به النبي (ص) دون امته !! فسكت الغلام
فلما حفظ قوله سبحانه وتعالى " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك " قال : يا أبت أسمع أن طائفة كانت تقوم الليل فمن هي ؟ قال : يا بني هؤلاء الصحابة !!
فقال: با أبت فأي خير في ترك ما عمله النبي (ص) وصحابته !! ..
فقال : صدقت فكان أبوه بعد ذلك يقوم الليل ..
فاستيقظ أبو يزيد ليلة فوجد أبوه يصلي فقال : يا أبت علمني كيف أتطهر وأصلي معك !!
فقال: يا بني أرقد فإنك صغير بعد .. فقال: يا أبت إذا كان يوم يصدر الناس أشتاتا ليرو أعمالهم فسألني ربي أقول له : قلت لأبي علمني كيف أتطهر لأصلي معك فقال لي أرقد فإنك صغير بعد !!
فقال له : لا والله يا بني لا أحب هذا وعلمه فكان بعد ذلك يصلي معه .. أنباء نجباء الأبناء / ابن ظفر المكي
ومن الطرائف في هذا الباب ما جاء في محاضرات الأدباء (1/56) : قال أبو محمد يحي وكان مؤدب المأمون في صغره : صليت يوما قاعدا فأخطأ المأمون فقمت لأضربه فقال : يا شيخ أتطيع الله قاعدا وتعصيه قائما !! فكتب بذلك إلى الرشيد فأمر له بخمسة آلاف درهم .
وروي أن الحارث المحاسبي مر وهو صبي على أولاد يلعبون على باب رجل تمار فوقف الحارث ينظر إلى لعبهم وخرج التمار ومعه تمرات فقال للحارث : كل هذه التمرات ..فقال الحارث : وما خبرك فيها ؟
فقال الرجل : بعت الساعة رجلا تمرا فسقط هذا منه
فقال الحارث : أو تعرفه ؟ قال : نعم .. فقال الحارث : وأنت أيها الشيخ مسلم ؟
فقال الرجل : وما قصدك ؟! فقال الحارث : إن كنت مسلما فاطلب صاحب التمر كما تطلب الماء إذال اشتد بك العطش حتى تتخلص من تبعته .. يا شيخ أتطعم أولاد المسلمين السحت وأنت مسلم ؟!
فقال الرجل : صدقت والله ما اتجرت للدنيا بعد اليوم أبدا

حتى نكون رجالا يترجمون المقال

وإذا أحببنا أن نقوم بتفسير لآلية عمل القدوة في التأثير التربوي فإننا نقوم بتفسير ذلك على ضوء أربع نظريات هامة تناولها الراشد في المسار ..
ا – قدرة الصلاح الحاسمة : فبمقدار الصلاح الذي يحوذه المربي القدوة كانت أعماله وممارساته أقرب في التأثير , وأذكر أنه من الوصايا القيمة التي أسدت إليّّ في بدايات عملي في مجال الطفولة تتلخص في أمرين :
الأول : عمل صالح قبل ( اللقاء – النشاط – توجيه طفل لسلوك معين - ..... ) فذلك أرجى في التأثير .. كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول : عمل صالح قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم ..
الثاني : التوبة والإستغفار قبل كل عمل .. يقول الفضيل " عليكم بالتوبة فإنها ترد عنكم ما لا يرده الحذر "
ومن وصايا عمر بن عبد العزيز القيمة : لا يكونن شيئ أهم إليك من إصلاح نفسك فإنه لا قليل من الإثم ..
2 – إنعكاس الإختيار الذاتي : المربي القدوة مؤمن رائد استتم له النبل فصار بموضع الأسوة وليس ذلك إلا عن طريق مجموعة من الإختيارات في الحياة وإنما يحسن الإختيار للناس من أحسن الإختيار لنفسه .. فإن أحسنّا اختياراتنا في الحياة سينعكس ذلك تلقائيا على من نربيهم فيرقى مستوى اختياراتهم و يكون أقرب موافقة للشرع ..
لذلك نجد من الأسئلة التي كثيرا ما نسألها لأنفسنا ونحن نتصدر لمهمة التربية وما زالت عندنا بعض الهفوات التي يمكن أن نقول أنها نتيجة ضعف في خياراتنا في بعض المواقف :
كيف أربي غيري وأنا أحتاج إلى تربية ؟ بل كيف أنصب من نفسي قيما على أخطاء الآخرين أقوم وأوجه وأن بعد لم أحسن الإختيار لنفسي ؟
وهو سؤال ينم عن حرص شديد وتحري للترقي نحو المعالي وإن كان الوقوف عنده طويلا قد يؤدي بنا إلى باب من الفتنة عظيم .. لذلك كانت الإجابة :
أخي المربي .. لا تتخلى ولكن تخلى واستعن بالله على ذلك !!
لا تتخلى ( الأولى ) عن مهامك ومسؤليتك في توجيه غيرك , ولكن تخلى ( الثانية ) من التخلية والمقصود : عن سلبياتك وهناتك واختياراتك السلبية في الحياة ..
3 – حركة أصداء الورع : فالمربي القدوة الورع الصالح لورعه وصلاحه أصداء تنساب في أجواء الدنيا من حوله فيستجيب له ويتأثر به كل من كان في مدي هذه الأصداء ..
يقول أحد الصالحين : على قدر شغلك بالله واستجابتك لما يرضيه يكون شغل الناس بك وتأثرهم بما تقول واستجابتهم لك فيما يرضي الله ..
وعلى ضوء هذا المعنى يمكن تفسير حديث النبي (ص) : " إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه ...... ثم يوضع له القبول في الأرض "
ولذلك قال الحسن البصري لولده: يا ولدي ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة عندما سأله يوما عن السر في تأثر الناس بكلام الحسن وعدم تأثرهم بكلام بعض الوعاظ
4 – كفاية تعبير الحقيقة : ما إدّعى أحد قط إلا لخلوه من الحقائق ولو تحقق بشيء لنطقت عنه الحقيقة ولأغنته عن الدعوى ..
وهذا هو معنى العدوى الوجدانية ( التأثير الصامت ) : عندما تنتقل الأخلاق والسلوكيات والقناعات من شخص إلى شخص فقط بمجرد معايشتهم لبعضهم البعض دونما مجهود من المربي فقط تعبر عنه الحقائق المتمثلة فيه .. لذلك كان السلف يقولون : كنا ننظر في وجه محمد بن واسع فنعمل عليها شهرا .
وبعد هذه النظريات التي فسرت على ضوءها آلية عمل القدوة تظل نظريات وتظل الحقيقة في ممارسة النبي (ص) القائدة التي تأسى بها الصحابة فكانوا خير القرون ومن هنا ندرك حجم المعنى المتمثل في هتافنا " الرسول قدوتنا " ..

رمضان والتربية بالقدوة

من خلال فترة ممارسة للتربية في مرحلة الطفولة وجدت أن معظم إن لم يكن كل الممارسات العبادية في رمضان هي نتيجة مباشرة لإقتداء الطفل بمن يربيه وليس ذلك فقط في القيم والسلوكيات والعبادات ولكن أيضا في المظاهر الرمضانية ..
فنجد إنشغال الطفل بقراءة القرآن وإقباله عليها مرتبطة إرتباطا وثيقا بإقبال والده أو مربيه على القرآن فيقوم الطفل بتقليده حتى في شكل جلسته وهو يقرأ والوقت الذي يقرأ فيه ..
ومن هنا كان رصد بعض السلوكيات السلبية لدى بعض الأبناء فيما يخص البناء الأخلاقي والعبادي في رمضان يمكن تفسيرها على ضوء هذه الظاهرة فيكون الحل إن لم نستطع توجيه البيت إلى تحسين أداءه العبادي والأخلاقي في رمضان أن يطول وقت معايشة الطفل لمربيه واطلاعه على جانب من عبادته وممارساته الإيمانية في هذا الشهر .

الخميس، 4 سبتمبر 2008

الحماية الربانية .. الجزء الثاني

الحماية الربانية
الجزء الثاني

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد ( ص) وبعد ..

المتابع لحياة النبي (ص) في نشأته والمعاناة التي مر بها يبصر طرفا من الحماية الربانية للنبي (ص) ..
علماء النفس يقولوا : أن الطفل الذي ينشأ تحت وطئة الحرمان - سواء الحرمان العاطفي أو المادي - يحدث ذلك شرخا كبيرا في شخصيته ويؤثر في سلوكه في المستقبل حيث يصبح شخصية غير سوية ..
والغريب أن النبي (ص) عانى من هاتان الحالتان معا .. الحرمان العاطفي المتمثل في وفاة والده ولما يولد النبي (ص) بعد ثم وفاة والدته وعمره ست سنوات ثم وفاة جده الذي أحبه من كل قلبه بعدها بعامين .. ثم الحرمان المادي بعد انتقاله للعيش مع عمه أبو طالب الذي كان رقيق الحال كثير العيال ..
ثم لم نجد في حياة النبي (ص) بعد ذلك أثرا لشخصية غير سوية على الإطلاق مما يجعلنا نتسائل في حيرة حتى تطالعنا آيات القرآن لتكشف عن السبب وراء ذلك .. إنها الحماية الربانية ..
يقول الله تعالى : " ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى "
هي إذا يد القدرة وعمل الحماية الربانية في حياة النبي (ص) ..
وفي الأحداث المتتابعة منذ بعثة النبي (ص) نبصر بوضوح أثر الحماية الربانية ..
في رحلة الهجرة والنبي يلخص الموقف لأبو بكر بقوله : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما "
ويقرر القرآن هذه الحقيقة فيقول : " إلا تنصروه فقد نصره الله "
وفي أول صدام مسلح كبير بين المسلمون ومشركي قريش في بدر نجد التعبير القرآني يلخص المشهد فيقول الله تعالى : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أزلة "
ويصور النبي (ص) وهو جاثم على ركبتيه يستغيث ويطلب المدد والحماية الربانية ..
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي [ ص ] إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف , ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي [ ص ] القبلة , وعليه رداؤه وإزاره , ثم قال:" اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً "
قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه , حتى سقط رداؤه عن منكبيه , فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّه , ثم التزمه من ورائه , ثم قال : يا نبي الله , كفاك مناشدتك ربك , فإنه سينجز لك ما وعدك " ..
ثم ويصف الكيفية التي تم بها هذا النصر, كما في سورة الأنفال : " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)"
يقول الأستاذ سيد قطب في الظلال معلقا : ( ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها , حيث يتجلى كيف كانت حالهم , وكيف دبر الله لهم , وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً .. حيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله , وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى .. إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته , وتدبيره وقدره ; وتسير بجند الله وتوجيهه .. وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان , كأنه يكون الآن !)

وفي مواقف كثيرة يتجلى هذا المظهر في وضوح شديد سواء بشكل مباشر كما في إخبار النبي (ص) بمؤامرة قتله في بني النضير أو بستار من البشر كما في مواقف عدة ..

بيد أن هذه الحماية التي تحدثنا عنها ليست خاصة بالأنبياء كما تدلك النظرة الأولى في مبنى الحديث ولكن نجد في القرآن حديث عن جوانب من الحماية الربانية كما في سورة النساء يقول الله عز وجل : " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً " ..
وهكذا بلمسة رقيقة تمس شغاف القلوب , قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار , بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح , لا راحم لهم ولا عاصم , موضحا جانبا من جوانب الحماية الربانية للأبناء متضمنا الوسيلة العملية التي يمكن لآبائهم استجلاب الحماية الربانية لذويهم ..

يذكر الإمام ابن تيمية في ( باب الأمانة ) في كتاب السياسة الشرعية : أن عمر بن عبد العزيز تولى خلافة المسلمين ما يقرب من ثلاث سنوات فأصلح من أمر الدولة ومن شأن الناس الكثير ولم يجعل له ولأولاده من الأموال شيء فلما حضرته الوفاة قال له أحد عواده لقد ظلمت أولادك في المال يا أمير المؤمنين وكانوا سبعة ذكور وسبعة إناث .. فلما نظر إليهم بكى ثم قال : يا أبناءي أنتم أحد رجلين إما عصاة فلا أترك ما عينكم على معصية الله وإما صالحين فهو – سبحانه وتعالى – يتولى الصالحين ..
فلما مات عمر بن عبد العزيز كان نصيب الواحد منهم تسعة عشر درهما ولما مات هشام بن عبد الملك كان نصيب كل واحد من أبنائه ستمائة ألف دينار .. يقول : فوالله لقد رأيت بعض ولد هشام يتكففون الناس ورأيت بعض ولد عمر يحمل بألف فرس في سبيل الله ..

فالحماية الربانية إذا ليست من لوازم النبوة ولكنها سمة من سمات الدعوة وليست من قبيل الكرامات ولكنها تستجلب بأسبابها ..
فالقرآن عندما تحدث عن الحماية الربانية ليوسف نجده يقرر سمات لازمة في شخصيته وسلوكه جعلت الحماية الربانية مستجلبة بواسطتها ومقرونة بها لا تنفك عنها .. انظر إلى وصف القرآن له " إنه من عبادنا المخلصين " , " إنا لا نضيع أجر المحسنين " ..
وفي تناول سورة الأعراف لقصة موسى عليه السلام وقد اختبر كليم الله طرفا من هذه الحماية وذاق لذة العيش في كنف الله نجده يرشد قومه إلى أدوات استجلاب الحماية الربانية ..
" قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ "
يقول صاحب الضلال : ( إنها رؤية النبي لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه .. ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون .. إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد , وهو الملاذ الحصين الأمين وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه وألا يعجلوا فهم لا يطلعون الغيب , ولا يعلمون الخير ..)
فلما فعلوا وصبروا أخذت الحماية الربانية دورها في صياغة المشهد وتوالت مشاهد النصرة وبوادر الاستخلاف وكان تعليق القرآن :
" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ " ..

ومن آثار الحماية الربانية ما يجده بعض الشباب الملتزم من تعسير للمعصية وتيسير للطاعة حتى قال العلماء إن لله ملائكة جعلهم لصرف المؤمن عن المعصية ..
في الأثر : أن موسى عليه السلام سأل ربه : يا رب ما علامة حبك للعبد ؟
قال : " ألهمه ذكري فلا ينساني وأحول بينه وبين المعاصي " ..
قال : فما علامة بغضك له ؟
قال : " أنسيه ذكري فلا يذكرني وأخلي بينه وبين المعاصي "

وفي غمار الحياة اليومية نجد من أحاديث النبي (ص) ما يشير إلى وسائل قريبة لإستجلاب الحماية الربانية ..
في حديث صلاة الصبح الذي رواه مسلم عن جندب بن سفيان رضي الله عنه يقول النبي (ص) : " من صلى الصبح فهو في ذمة الله ...."
وفي المأثورات ( أذكار الصباح والمساء) من حديث عثمان رضي الله عنه يقول النبي (ص) : " ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات إلا لم يضره شيء " رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ص) : " من قرأ حم المؤمن - سورة غافر – إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قالهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح " رواه الترمذي والبيهقي والدارمي وابن سني .

ولا نريد أن ننسى أهم هذه الوسائل التي يستجلب بها الحماية الربانية وهي طلب الحماية من الله والاستعانة به عند كل نازلة ..
في الأثر : أن الله عز وجل قال : " يا داود أما وعزتي وجلالي لا يستنصر بي عبد من عبادي دون خلقي وأعلم ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له بهن فرجا ومخرجا ولا يستعصم عبد من عبادي بمخلوق مثله دوني وأعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء دونه ولا أبالي في أي واد هلك " .
وهو ملمح رئيسي مررنا عليه ونحن نتحدث في قصة موسى حول أثر الحماية الربانية وإذا بنا نجده عليه السلام يطلبها في إقرار مباشر منه لأهم وسائل استجلاب الحماية الربانية : " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين" .

وإذا بنا نعود أدراجنا حيث بدأنا لنكون بذلك تحدثنا حول النصف الأول من المعنى حول مفهوم الحماية الربانية وأثرها وأدوات استجلابها ..
ليبقى النصف الآخر من المعنى وهو :

"هل يمكن أن نكون بذواتنا نشكل جانبا من جوانب الحماية الربانية للدعوة .. " .

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ..
والسلام عليكم ورحمة الله .
أخوكم ..
د . محمد عبدالمنعم ..

الأحد، 31 أغسطس 2008

رمضان لأول مرة


رمضان لأول مرة ..

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد ( اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم ) .. وبعد ..
أيام قليلة ويحل بجوارنا شهر الله الفضيل .. هذا الضيف العزيز الذي طال الشوق إلى لقاءه .. فكل عام وأنتم إلى الله أقرب وعلى طاعته أدوم ..
في مثل هذا الوقت من كل عام نجلس دوما إلى أنفسنا يحدونا الشوق إلى مجيء رمضان ويكون الحديث المتكرر عن فضل هذا الشهر وفضل العبادة فيه .. ويطول الحديث وتسموا النفوس مع فضل الصيام وروعة القرآن وشرف القيام .. ثم يبدأ رمضان وتمر أيامه سراعا وتبدأ الهمم تفتر والعزائم تخور والأرواح تسأم والقلوب تألف لنعود إلى سابق عهدنا قبل رمضان ..
ثم نفاجئ بأنه لم يبقى على إنتهاء الشهر الفضيل إلا أيام ونحاول ساعتها أن ندرك ما يمكن إدراكه من هذا الشهر ونكون عندها قد تأخرنا كثيرا وانقضى الشهر ..
لذلك كان هذا الشعار " رمضان لأول مرة " لأننا هذه المرة سنحاول التفكير بطريقة مختلفة ونتعامل مع رمضان عامنا هذا وكأننا نختبره لأول مرة .. رمضان لأول مرة تحمل عنصرا يجدد قيمة رمضان في قلوبنا وكأنه في كل عام أول مرة وكأن ركعاته أول ركعات وسجداته أول سجدات ودعواته أول دعوات .. نفسية جديدة وروح جديدة في كل عام ..

اللهم بلغنا رمضان

هذا الدعاء القريب المحبب إلى القلوب الذي كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يدعون به واصفا حالة فريدة من الشوق ورغبة أكيدة في تحري الأجر والخير والتعرض إلى هذه النفحة الربانية يحمل في طياته معنا قد لا يبدو جليا للوهلة الأولى إلا إذا فهمنا قبلا مفهوم الدعاء ..
الدعاء : حالة اتصال بين من لا يملك ( البشر ) ومن يملك سبحانه وتعالى طلباً لاستجلاب خير أو دفع ضر .. وهو من هذا الناحية يمثل عنصر الضعف المجبول عليه البشر والحاجة إلى الله سبحانه وتعالى ..
فهو إذا " اللهم بلغنا رمضان " رجاء نرفعه إلى الله بأن يجعلنا ممن يدرك هذا الشهر إدراك حقيقي مقرون بالفوز بغنائم هذا الشهر والتوفيق إلى العبادة فيه ثم إخلاصها لله حتى يتقبل منا .. لأنه يمكن أن لا ندركه أصلا أو ندركه إدراك على سبيل المجاز بالمصطلح الإيماني بمعنى أنه إدراك مفرغ من حقيقته المتمثلة في إدراك فتوحات هذا الشهر وهبات الله القيمة فيه ..
الخلاصة : رمضان من التوفيقات الربانية التي لا يُوفقُ إليها إلا مُوفّق ..
ولعل من الوسائل الجالبة للتوفيق لإدراك هذا الشهر أمرين في غاية الأهمية :

1 - إستشعار مدى حاجتنا إلى رمضان ..
رمضان فرصة كبيرة من الفرص التي شاء الله عز وجل أن يجعلها محطات يمكن لمن سار مبتعدا عن الله أن يعود أدراجه منها ..
كنت وأنا صغير عندما تمر بي أيام أسير فيها مبتعدا عن الله أنظر لرمضان متخيلا نفسي تائها مبتعدا عن بيتي من غير هدى لا أعلم كم طالت المسافة بيني وبين ديار أهلي وإذا بي أجد لوحة على جانب الطريق مرقوم عليها مسافة البعاد وإشارة تبين طريق العودة ..
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: " إني والانس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري الى العباد نازل وشرهم اليّ صاعد، أتودد اليهم بالنعم وأنا الغني عنهم ويتبغضون اليّ بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون اليّ ، أهل ذكري أهل مجالستي ، من أراد أن يجالسني فليذكرني، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا اليّ فأنا حبيبهم، وان أبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، من أتاني منهم تائبا تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب ، أقول له أين تذهب ؟ ألك رب سواي ، الحسنة بعشر أمثالها وأزيد، والسيئة عندي بمثلها وأعفو، وعزتي وجلالي لو استغفروني منها لغفرتها لهم "
ورمضان فرصة للتغيير .. كثير من الشباب ينظر إلى حاله ويتألم كثيرا لابتعاده عن الله ويبدأ قلبة يلين ويعزم التوبة ثم يكون العائق أمامه هو الوسط الذي يعيش فيه والحالة العامة من الجذر الإيماني لدى الناس فلعل في رمضان يجد بغيته في جو الغالب عليه الإقبال على الله لن يجد استغرابا من الناس في أي حركة تغيير يقوم بها سواء في عبادته أو في سلوكه الشخصي
ولعل هذه هي أهم فرص هذا الشهر وما أجمل ونحن نتعامل مع هذه الفرصة ومع رمضان من هذه الناحية أن نستحضر دوما رغبة الله عز وجل في أن نعود إليه تائبين راجين مغفرته ورحمته ..

جاء في الأثر: " أن الله تبارك وتعالى نادى داود: يا داود لو يعلم المدربون عني شوقي لهم وحبي ورغبتي في عودتهم لطاروا شوقا اليّ، يا داود: هذه رغبتي بالمدبرين عني فكيف حبي للمقبلين عليّ ".
ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشسمس من مغربها " رواه مسلم.
ومن أسباب حاجتنا إلى هذا الشهر فرص العفو والمغفرة ومضاعفة الأجر
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين " رواه البخاري ومسلم
وفي رواية لمسلم " فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين "
وعنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم " رواه النسائي والبيهقي
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم " رواه ابن ماجه وإسناده حسن
وهل هناك شهر النافلة فيه بفريضة والفريضة فيه بسبعين فريضة إلا شهر رمضان ..
وهل تحيا القلوب وتبرأ الأرواح وتسمو النفوس وتلين الجلود وتقشعر الأبدان وتفيض العبرات وتكثر الأنات إلا في هذا الشهر ..
فعجبا لمن ليس له في رمضان حاجة , عجبا لمن نزل أرض المغفرة ولم يكتال منها وسعه أو خرج منها ولو بسهم , وعجبا لمن شهد موسم الأرباح ولم يظفر من الجنة بقصر , وعجبا لمن حضر سوق الرحمات فنام والسوق سينفض آخر الشهر .

2- قدموا بين يدي رمضان .. قربانا إلى الرحمن ..
في سورة المائدة يصف القران حالة من الترقب والشوق إلى استجلاب خير لم يصرح به القرآن وهو يحكي لنا قصة إبني آدم ولكن نجد آيات القرآن تنص صراحة على وسيلة استجلاب هذا الخير قال تعالى : " إذ قربا قربانا " ..
من هنا كان لنا أن نقدم بين يدي رمضان قربانا إلى الله عز وجل لعل الله يجعلنا ممن يدرك هذا الشهر , وكل حسب حاجته من رمضان , فالبعض يختار اثنين من أصحابه ويبدأ في تهيأتهم لشهر رمضان وقد عزم على إشراكهم في برنامجه فله مثل أجرهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيء لسان حاله : يارب عجلت إلى رحابك بعبدين تائبين لعلك ترضى عني ..
ومنا من سيستعد بصيام شعبان وقيام راتب في أيامه ومضاعفة للورد أو صدقة في السر أو نحو ذلك من سبل الخير ..
ولكن هناك قضية هامة ونحن نتعامل مع التهيأ لرمضان بتقديم بين يديه قربانا إلى الله وهي التخوف من الوقوع في دائرة قوله تعالى في نفس الآية السابقة من سورة المائدة : " فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " فهناك آفة تصيب القربان تؤدي به وبنا إلى عدم القبول ولا أجد هذه الآفة إلا الذنوب ولعل هذا ما أراد ابن آدم الذي تقُبِّـل قربانه أن يلفت أنظارنا إليه وهو ينصح أخاه بقوله : " إنما يتقبل الله من المتقين " فلابد قبل رمضان من توبة وطول استغفار فلعل ذلك أرجى لنا في القبول من الله ..
نسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يعيده علينا أعواما عديدة وأزمنة مديدة وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال ولا ينقضي رمضان إلا وقد لانت قلوبنا وسالت مآقينا ونشعرنا بلذة القرب وقضيت حوائجنا ونلنا جوائزنا وقد رضي الله عنا وجعلنا من عتقائه من النار ..
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ..


د . محمد عبدالمنعم

الخميس، 28 أغسطس 2008

الحماية الربانية.... المقدمة...

الحماية الربانية
الجزء الأول

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد ( ص) وبعد ..
عندما نتأمل السياق القرآني في سورة يوسف نجد أن أحد أهم محاور السورة هو هذا التدخل المتكرر من الله سبحانه وتعالى ليتولى قيادة الموقف والسيطرة على مجريات الأحداث .. ففي موقف مراودة إمرأة العزيز ليوسف نجد أن الخطاب القرآني :
" وكذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين " ..
وينسب عملية حماية يوسف من هذه المؤامرة إلى الله سبحانه وتعالى ..
ونجد أن يوسف عليه السلام في موضع آخر يطلب هذه الحماية فيقول :
" وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين "
وفي غير موضع في السياق نجد أثر هذا التدخل المباشر من الله سبحانه وتعالى في مجريات الأحداث ..
يقول الله تعالى :
1. "وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون "
2. " وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين "
3. " وكذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله "
ونجد في نهاية السورة إعترافا من يوسف عليه السلام بأثر هذا الحماية ..
يقول الله تعالى :
" ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي : إذ أخرجني من السجن , وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم . ربي قد آتيتني من الملك , وعلمتني من تأويل الأحاديث , فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين . "
هذا هو المعنى الذي أحب أن أتحدث فيه إليكم .. معنى الحماية الربانية ..
في قصة موسى عليه السلام يتجلى بوضوح هذا المعنى ونحن نتابع القصة في سياق سورة القصص وفي مطلعها

" وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( 9) "


يقول الأستاذ سيد قطب : نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة , والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان نزلت تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم , نزلت تقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود ,هي قوة الله ; وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون , هي قيمة الإيمان . فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه , ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة , ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى ..
ومن ثم يقوم كيان السورة على قصة موسى وفرعون في البدء : تعرض قوة الحكم والسلطان , قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر ; وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة , ولا ملجأ له ولا وقاية . وقد علا فرعون في الأرض , واتخذ أهلها شيعا , واستضعف بني إسرائيل , يذبح أبناءهم , ويستحيي نساءهم , وهو على حذر منهم , وهو قابض على أعناقهم . ولكن قوة فرعون وجبروته , وحذره ويقظته , لا تغني عنه شيئا ; بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير , المجرد من كل قوة وحيلة , وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة ترعاه عين العناية , وتدفع عنه السوء , وتعمي عنه العيون , وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا , فتدفع به إلى حجره , وتدخل به عليه عرينه , بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه , مكفوف الأذى عنه , يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه !


ومرة ثانية وقد افترق عن أمه الني استجابت للأمر وألقت وليدها في اليم فتتولى الحماية الربانية مهمة لم الشمل مرة ثانية ..
يقول الأستاذ سيد قطب : إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره , وتكيد به لفرعون وآله ; فتجعلهم يلتقطونه , وتجعلهم يحبونه , وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه , وتحرم عليه المراضع , لتدعهم يحتارون به ; وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه , وهم يخشون عليه الموت أو الذبول ! حتى تبصر به أخته من بعيد , فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع , فتقول لهم :
" هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون "
يتلقفون كلماتها , وهم يستبشرون , يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب !
وينتهي المشهد فنجدنا وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة معافى في بدنه , مرموقا في مكانته , يحميه فرعون وترعاه
امرأته , وتضطرب المخاوف من حوله وهو آمن قرير العين . وقد صاغت يد القدرة الحلقة الأولى من تدبيرها العجيب..
" فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين َ (14) "
ومرة أخرى بل مرات عديدة والحماية الربانية تبرز كسمة أساسية في السياق القرآني عند تناول حياة موسى عليه السلام في مواطن عدة من القرآن ..
يقول الله تعالى :
" قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما أنتما ومن اتبعكما الغابون "
" قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى . قال لا تخافا إني معكما أسمع وأرى " طه 45-46

الجمعة، 8 أغسطس 2008

بداية قديمة !!




السلام عليكم ورحمة الله..
إخواني الأعزاء بعد شديد فرحي بانضمامي إليكم وتواصلي معكم عبر هذه المدونة , أحب أن أعترف لكم بفضل أناس من أهل الفضل لولاهم ما كنا عرفنا طريق الحق ندعوا لهم في كل سجدة ونتذكرهم مع كل سبحة للفكر ..

ولهذا بدأت أول تدويني إليكم بعبارة " بداية قديمة " ..

فالبداية تحمل في طياتها التجديد والاستمرار واستقبال وجه المستقبل الذي نأمل أن يكون أفضل مما نأمل , و " قديمة " لأننا ما كنا لنأتي بجديد في أمر هذا الدين فقط نصل الماضي بالحاضر ..
نحن في ذي الحياة ركب سفار نصل اللاحقينا بالماضينا
قد هدانا الطريق من سبقونا وعلينا هداية الآتينا

يقول الأستاذ البنا :

رأيت القائمين على كل نهضة موفقة نجحت وأثمرت كان لهم
منهاج عليه يعملون , وهدف إليه يقصدون , وضعه الداعون إلى النهوض وعملوا على تحقيقه ..

خلفهم من قومهم غيرهم يعملون على مناهجهم , فلم يهدموا ما أسسوا وشادوا ولكن :
إما زادوا عمل أسلافهم تحسينا ..
أو مكنوا نتائجه تمكينا ..
وإما تبعوه
م على آثارهم فزادو البناء طبقة وساروا بالأمة شوطا إلى الغاية ..
أو ينصرفوا راشدين ثم يخلفهم غيرهم .

رحم الله الأدلاء على طريق الدعوة ففضلهم علينا شباب الدعوة لا ولن ننساه ..
جعلنا الله خير خلف لخير سلف ..
وجزاكم الله خيرا