كن في الدنيا حثيث الخطى شريف السماع كريم النظر .. كن رجلا إن أتوا بعده يقولوا مر وهذا الأثر

الخميس، 4 سبتمبر 2008

الحماية الربانية .. الجزء الثاني

الحماية الربانية
الجزء الثاني

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد ( ص) وبعد ..

المتابع لحياة النبي (ص) في نشأته والمعاناة التي مر بها يبصر طرفا من الحماية الربانية للنبي (ص) ..
علماء النفس يقولوا : أن الطفل الذي ينشأ تحت وطئة الحرمان - سواء الحرمان العاطفي أو المادي - يحدث ذلك شرخا كبيرا في شخصيته ويؤثر في سلوكه في المستقبل حيث يصبح شخصية غير سوية ..
والغريب أن النبي (ص) عانى من هاتان الحالتان معا .. الحرمان العاطفي المتمثل في وفاة والده ولما يولد النبي (ص) بعد ثم وفاة والدته وعمره ست سنوات ثم وفاة جده الذي أحبه من كل قلبه بعدها بعامين .. ثم الحرمان المادي بعد انتقاله للعيش مع عمه أبو طالب الذي كان رقيق الحال كثير العيال ..
ثم لم نجد في حياة النبي (ص) بعد ذلك أثرا لشخصية غير سوية على الإطلاق مما يجعلنا نتسائل في حيرة حتى تطالعنا آيات القرآن لتكشف عن السبب وراء ذلك .. إنها الحماية الربانية ..
يقول الله تعالى : " ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى "
هي إذا يد القدرة وعمل الحماية الربانية في حياة النبي (ص) ..
وفي الأحداث المتتابعة منذ بعثة النبي (ص) نبصر بوضوح أثر الحماية الربانية ..
في رحلة الهجرة والنبي يلخص الموقف لأبو بكر بقوله : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما "
ويقرر القرآن هذه الحقيقة فيقول : " إلا تنصروه فقد نصره الله "
وفي أول صدام مسلح كبير بين المسلمون ومشركي قريش في بدر نجد التعبير القرآني يلخص المشهد فيقول الله تعالى : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أزلة "
ويصور النبي (ص) وهو جاثم على ركبتيه يستغيث ويطلب المدد والحماية الربانية ..
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي [ ص ] إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف , ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي [ ص ] القبلة , وعليه رداؤه وإزاره , ثم قال:" اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً "
قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه , حتى سقط رداؤه عن منكبيه , فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّه , ثم التزمه من ورائه , ثم قال : يا نبي الله , كفاك مناشدتك ربك , فإنه سينجز لك ما وعدك " ..
ثم ويصف الكيفية التي تم بها هذا النصر, كما في سورة الأنفال : " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)"
يقول الأستاذ سيد قطب في الظلال معلقا : ( ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها , حيث يتجلى كيف كانت حالهم , وكيف دبر الله لهم , وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً .. حيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله , وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى .. إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته , وتدبيره وقدره ; وتسير بجند الله وتوجيهه .. وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان , كأنه يكون الآن !)

وفي مواقف كثيرة يتجلى هذا المظهر في وضوح شديد سواء بشكل مباشر كما في إخبار النبي (ص) بمؤامرة قتله في بني النضير أو بستار من البشر كما في مواقف عدة ..

بيد أن هذه الحماية التي تحدثنا عنها ليست خاصة بالأنبياء كما تدلك النظرة الأولى في مبنى الحديث ولكن نجد في القرآن حديث عن جوانب من الحماية الربانية كما في سورة النساء يقول الله عز وجل : " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً " ..
وهكذا بلمسة رقيقة تمس شغاف القلوب , قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار , بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح , لا راحم لهم ولا عاصم , موضحا جانبا من جوانب الحماية الربانية للأبناء متضمنا الوسيلة العملية التي يمكن لآبائهم استجلاب الحماية الربانية لذويهم ..

يذكر الإمام ابن تيمية في ( باب الأمانة ) في كتاب السياسة الشرعية : أن عمر بن عبد العزيز تولى خلافة المسلمين ما يقرب من ثلاث سنوات فأصلح من أمر الدولة ومن شأن الناس الكثير ولم يجعل له ولأولاده من الأموال شيء فلما حضرته الوفاة قال له أحد عواده لقد ظلمت أولادك في المال يا أمير المؤمنين وكانوا سبعة ذكور وسبعة إناث .. فلما نظر إليهم بكى ثم قال : يا أبناءي أنتم أحد رجلين إما عصاة فلا أترك ما عينكم على معصية الله وإما صالحين فهو – سبحانه وتعالى – يتولى الصالحين ..
فلما مات عمر بن عبد العزيز كان نصيب الواحد منهم تسعة عشر درهما ولما مات هشام بن عبد الملك كان نصيب كل واحد من أبنائه ستمائة ألف دينار .. يقول : فوالله لقد رأيت بعض ولد هشام يتكففون الناس ورأيت بعض ولد عمر يحمل بألف فرس في سبيل الله ..

فالحماية الربانية إذا ليست من لوازم النبوة ولكنها سمة من سمات الدعوة وليست من قبيل الكرامات ولكنها تستجلب بأسبابها ..
فالقرآن عندما تحدث عن الحماية الربانية ليوسف نجده يقرر سمات لازمة في شخصيته وسلوكه جعلت الحماية الربانية مستجلبة بواسطتها ومقرونة بها لا تنفك عنها .. انظر إلى وصف القرآن له " إنه من عبادنا المخلصين " , " إنا لا نضيع أجر المحسنين " ..
وفي تناول سورة الأعراف لقصة موسى عليه السلام وقد اختبر كليم الله طرفا من هذه الحماية وذاق لذة العيش في كنف الله نجده يرشد قومه إلى أدوات استجلاب الحماية الربانية ..
" قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ "
يقول صاحب الضلال : ( إنها رؤية النبي لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه .. ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون .. إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد , وهو الملاذ الحصين الأمين وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه وألا يعجلوا فهم لا يطلعون الغيب , ولا يعلمون الخير ..)
فلما فعلوا وصبروا أخذت الحماية الربانية دورها في صياغة المشهد وتوالت مشاهد النصرة وبوادر الاستخلاف وكان تعليق القرآن :
" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ " ..

ومن آثار الحماية الربانية ما يجده بعض الشباب الملتزم من تعسير للمعصية وتيسير للطاعة حتى قال العلماء إن لله ملائكة جعلهم لصرف المؤمن عن المعصية ..
في الأثر : أن موسى عليه السلام سأل ربه : يا رب ما علامة حبك للعبد ؟
قال : " ألهمه ذكري فلا ينساني وأحول بينه وبين المعاصي " ..
قال : فما علامة بغضك له ؟
قال : " أنسيه ذكري فلا يذكرني وأخلي بينه وبين المعاصي "

وفي غمار الحياة اليومية نجد من أحاديث النبي (ص) ما يشير إلى وسائل قريبة لإستجلاب الحماية الربانية ..
في حديث صلاة الصبح الذي رواه مسلم عن جندب بن سفيان رضي الله عنه يقول النبي (ص) : " من صلى الصبح فهو في ذمة الله ...."
وفي المأثورات ( أذكار الصباح والمساء) من حديث عثمان رضي الله عنه يقول النبي (ص) : " ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات إلا لم يضره شيء " رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ص) : " من قرأ حم المؤمن - سورة غافر – إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قالهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح " رواه الترمذي والبيهقي والدارمي وابن سني .

ولا نريد أن ننسى أهم هذه الوسائل التي يستجلب بها الحماية الربانية وهي طلب الحماية من الله والاستعانة به عند كل نازلة ..
في الأثر : أن الله عز وجل قال : " يا داود أما وعزتي وجلالي لا يستنصر بي عبد من عبادي دون خلقي وأعلم ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له بهن فرجا ومخرجا ولا يستعصم عبد من عبادي بمخلوق مثله دوني وأعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء دونه ولا أبالي في أي واد هلك " .
وهو ملمح رئيسي مررنا عليه ونحن نتحدث في قصة موسى حول أثر الحماية الربانية وإذا بنا نجده عليه السلام يطلبها في إقرار مباشر منه لأهم وسائل استجلاب الحماية الربانية : " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين" .

وإذا بنا نعود أدراجنا حيث بدأنا لنكون بذلك تحدثنا حول النصف الأول من المعنى حول مفهوم الحماية الربانية وأثرها وأدوات استجلابها ..
ليبقى النصف الآخر من المعنى وهو :

"هل يمكن أن نكون بذواتنا نشكل جانبا من جوانب الحماية الربانية للدعوة .. " .

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ..
والسلام عليكم ورحمة الله .
أخوكم ..
د . محمد عبدالمنعم ..

ليست هناك تعليقات: