كن في الدنيا حثيث الخطى شريف السماع كريم النظر .. كن رجلا إن أتوا بعده يقولوا مر وهذا الأثر

الثلاثاء، 1 ديسمبر 2009

الحماية الربانية .. الجزء الثالث

جنود الحماية الربانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وبعد ..

نعم .. " الله في غنىً عن خلقه " , حقيقة تعلمناها في دروس العقيدة والتي اقتضت بدورها أن يجعل الله لقدرته ستارا تظهر في إطاره أو ينفذها سبحانه على أي وجه أراد , لذلك كنا نحفظ من أساتذتنا وهم يعلموننا طرق العمل لله عز وجل أننا ستار للقدرة ونأخذ الأجرة

وفي إستعراضنا لحقيقة الحماية الربانية واستطرادنا في آثارها وطرائق استجلابها فإننا بلا شك نتناول نصف المراد الحقيقي من هذا المعنى وهنا في هذه السطور نستعرض النصف الباقي ولنعتبره " دعوة " لنكون ستاراً لهذه الحماية الربانية أو إن شئت قلت جنود الحماية الربانية للدعوة ..

في غزوة الخندق والقرآن عندما وصف هذه الغزوة وصف مشهدا مهيبا يقول عز وجل : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً .إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً " .. يقول صاحب الضلال : ( إنها صورة الهول الذي روع المدينة , والكرب الذي شملها , والذي لم ينج منه أحد من أهلها وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب من أعلاها ومن أسفلها فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب ; وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب , وظنها بالله , وسلوكها في الشدة , وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج ..

قال محمد بن مسلمة وغيره: كان ليلنا بالخندق نهارا ; وكان المشركون يتناوبون بينهم , فيغدو أبو سفيان ابن حرب في اصحابه يوما , ويغدو خالد بن الوليد يوما , ويغدو عمرو بن العاص يوما , ويغدو هبيرة ابن أبي وهب يوما , ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما ويغدو ضرار بن الخطاب يوما . حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا ..

ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع قال : ثم وافى المشركون سحرا , وعبأ رسول الله [ ص ] أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل , وما يقدر رسول الله [ ص ] ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم وما قدر رسول الله [ ص ] على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء " فجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله ما صلينا ! فيقول ولا أنا والله ما صليت ! حتى كشف الله المشركين , ورجع كل من الفريقين إلى منزله ..

وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا فالتقتا - ولا يشعر بعضهم ببعض , ولا يظنون إلا أنهم العدو . فكانت بينهم جراحة وقتل ثم نادوا بشعار الإسلام ! " حم . لا ينصرون " فكف بعضهم عن بعض فقال رسول الله [ ص ]:" جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد " ..

ولقد كان أشد الكرب على المسلمين , وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق , ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم . فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق , وأن تميل عليهم يهود , وهم قلة بين هذه الجموع , التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة .. الظلال بتصرف )

في هذا الكرب وهذه الشدة ما كان نعيم بن مسعود بن عامر [ من غطفان ] إلا جنديا من جنود الحماية الربانية أتى رسول الله ( ص ) فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت , وإن قومي لم يعلموا بإسلامي , فمرني بما شئت فقال رسول الله ( ص ): " إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت , فإن الحرب خدعة " .

وقد فعل حتى أفقد الأحزاب الثقة بينهم وبين بني قريظة في تفصيل مطول تحدثت عنه روايات السيرة وخذل الله بينهم وبعث الله عليهم الريح في ليلة شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح خيامهم وما يتخذونه للطبخ من مواقد .. وتم قدر الله وما قضاه لهذه الفئة المؤمنة والسؤال من دعا نعيم بن مسعود إلى الإسلام وجاء به إلى النبي (ص) وأي إيمان وقر في قلب نعيم ليتوج إسلامه بمهمة حرجة في وقت حرج لولا أنها إرادة الله التي أتخذت من نعيم بن مسعود ستارا لتنفذ إلى واقع الحياة ..

وفي مراحل عدة في تاريخ الأمة نجد للحماية الربانية جنودا اتخذتهم كعالم مجدد أوحاكم مصلح أوقائد منقذ أوداعية معلم وإلا فكيف ننظر إلى الشافعي وابن حنبل أو صلاح الدين أو قطز أو عمر بن عبد العزيز أو العز بن عبد السلام نماذج تمثلت في شخوصهم الحماية الربانية لهذا الدين ولدعوة محمد (ص) ..

ولست بمفرط عندما أقول أن البنا كان أحد هؤلاء الجنود الربانيين وإلا فراجع معي متى بدأ دعوته وفي أي ظروف كانت النشأة الأولى يقول البنا في مذكرات الدعوة والداعية : ( وعقب الحرب العالمية وفي هذه الفترة التي قضيتها بالقاهرة ، اشتد تيار موجة التحلل في النفوس وفي الآراء والأفكار باسم التحرر العقلي، ثم في المسالك والأخلاق والأعمال باسم التحرر الشخصي، فكانت موجة إلحاد وإباحية قوية جارفة طاغية، لا يثبت أمامها شيء، تساعد عليها الحوادث والظروف.

لقد قامت تركيا بانقلابها الكمالي وأعلن مصطفي كمال باشا إلغاء الخلافة ، وفصل الدولة عن الدين في أمة كانت إلى بضع سنوات في عرف الدنيا جميعا مقر أمير المؤمنين، واندفعت الحكومة التركية في هذا السبيل في كل مظاهر الحياة. ولقد تحولت الجامعة المصرية من معهد أهلي إلى جامعة حكومية تديرها الدولة وتضم عددا من الكليات النظامية، وكانت للبحث الجامعي والحياة الجامعية حينذاك في رؤوس الكثيرين صورة غريبة: مضمونها أن الجامعة لن تكون جامعة علمانية إلا إذا ثارت على الدين وحاربت التقاليد الاجتماعية المستمدة منه، واندفعت وراء التفكير المادي المنقول عن الغرب بحذافيره، وعرف أساتذتها وطلابها بالتحلل والانطلاق من كل القيود.

ولقد وضعت نواة ” الحزب الديمقراطي” الذي مات قبل أن يولد ولم يكن له منهاج إلا أن يدعو إلى الحرية والديمقراطية بهذا المعنى المعروف حينذاك: معنى التحلل والانطلاق

وأنشئ في شارع المناخ ما يسمى بالمجمع الفكري، تشرف عليه هيئة من التيوصوفيين، وتلقى فيه خطب ومحاضرات تهاجم الأديان القديمة وتبشر بوحي جديد وكان خطباؤه خليطاً من المسلمين واليهود والمسيحيين وكلهم يتناولون هذه الفكرة الجديدة من وجهات النظر المختلفة.

وظهرت كتب وجرائد ومجلات كل ما فيها ينضح بهذا التفكير الذي لا هدف له إلا إضعاف أثر أي دين، أو القضاء عليه في نفوس الشعب لينعم بالحرية الحقيقية فكريا وعمليا في زعم هؤلاء الكتاب والمؤلفين.

وجهزت " صالونات " في كثير من الدور الكبيرة الخاصة في القاهرة يتطارح فيها زوارها مثل هذه الأفكار، ويعملون بعد ذلك على نشرها في الشباب وفي مختلف الأوساط.

كان لهذه الموجة رد فعل قوي في الأوساط الخاصة المعنية بهذه الشئون كالأزهر وبعض الدوائر الإسلامية، ولكن جمهرة الشعب حينذاك كانت إما من الشباب المثقف وهو معجب بما يسمع من هذه الألوان، وإما من العامة الذين انصرفوا عن التفكير في هذه الشئون لقلة المنبهين والموجهين، وكنت متألماً لهذا أشد الألم، فها أنذا أرى أن الأمة المصرية العزيزة تتأرجح حياتها الاجتماعية بين إسلامها الغالي العزيز، الذي ورثته وحمته، وألفته وعاشت به واعتز بها أربعة عشر قرنا كاملة، وبين هذا إلغزو الغربي العنيف المسلح المجهز بكل الأسلحة الماضية الفتاكة من المال والجاه، والمظهر والمتعة والقوة ووسائل الدعاية .. )

في ظل هذه الظروف بدأ البنا دعوته فغير وجه مصر وضم تحت لوائه الجمع الغفير من أبناء شعبها ونشروا الإسلام بشموله وعمومه وربانيته وعمقه في المجتمع , بعث الأمل وبدأ العمل ورسم المنهاج وابتدأ السير من جديد في جهد متواصل وعمل دؤوب .

ولجنود الحماية الربانية مواصفات نستكملها فنكون أهلا للإنضمام إلى كتيبتهم الربانية المجاهدة ..

1 . جنود عقيدة وفكرة لا جنود غرض ومنفعة ..

فهم يعملون في أشد المواقف والأزمات وهم لا يحبون أن يرى مكانهم ولنستمع إلى البنا وهو يقول في حفل من أحفال طلاب الإخوان المسلمين من شباب الجامعة المصرية :

( أيها الإخوان قبل أن آخذ معكم في حديث الدعوة أحب أن أوجه إليكم هذا السؤال: هل أنتم على استعداد بحق لتجاهدوا وليستريح الناس؟ وتزرعوا ليحصد الناس ؟ وأخيرا لتموتوا وتحيا أمتكم ؟ وهل أعددتم أنفسكم بحق لتكونوا القربان الذي يرفع الله به هذه الأمة إلى مكانتها؟!

من العاملين من يعمل لابتغاء مال أو جاه أو وظيفة أو منصب أو عرض من أعراض هذه الدنيا، ومنهم من يعمل ابتغاء ثواب الله ورضوانه في الآخرة، ومنهم من سمت نفسه ورق حسه ودق شعوره وتسامى عن مواطن المادة جميعا وانتقل إلى الملأ الأعلى فأحب الخير للخير وعمل الجميل لذاته وشعر بأن ما يجد من حلاوة التوفيق لهذه المنزلة فيه الكفاءة لما بذل من تضحيات في سبيلها ، وأدرك سر قوله تعالى” بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين” فإن كنتم من الصنف الأول فتخلوا حالا عن هذا الميدان الكريم فما أفلح فيه نفعي قط ، ويأبى إلى الله أن يكون دينه القيم أحبولة لجر المغانم الدنيوية الزائلة، وإن كنتم من الصنف الثاني فاعملوا راشدين فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً وإن كنتم من الصنف الثالث فبخ بخ وهنيئا لكم السمو إلى ذلك العالم الملكي والاتصال بهذا الملأ الروحاني والدخول في حيز قوله تعالى: “ولسوف يرضى” .. )

ويقول معلقا على أول آية من سورة الأنفال : " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " يقول الإمام البنا : ( .. لأصحاب كل دعوة موقفان لا ثالث لهما , فهم في أول أمرهم مجاهدون دائبون عاملون يضحي كل منهم بكل ما يملك في سبيل دعوته فهم يخسرون كل شيء ويربحون شيئا واحدا وهو تثبيت العقيدة وتوطيد دعائمها ..

حتى إذا استوثق لهم الأمر وتمكنوا من أسباب النصر جاء الموقف الثاني فطالب كل منهم بالتضحية في الغنيمة التي غنمها وود لو ظفر منها بنصيب الأسد .. وهنا يعرف المجاهدون المخلصون ويظهر الوصوليون النفعيون فإذا كانت العقيدة قوية وجنودها مخلصون لها ويرون فيها الغناء عن كل ما سواها استوى عندهم العطاء والحرمان وانتظروا الجزاء الأوفى من الله .. )

ويروي البخاري عن عمرو بن تغلب تزكية رسول الله لهذا الشعور فيه فيقول : أعطى رسول الله يوم حنين قوما ومنع آخرين فكأنما عتبوا عليه فقال : " إني أعطي أقواما أخاف هلعهم وجزعهم وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب " .. فيقول عمرو فما أحب أن لي بكلمة رسول الله حمر النعم ...

2 . أصحاب همة عالية وذاتية واعية ..

إن جنود الحماية الربانية لابد أن يكونوا أصحاب همة عالية وغاية بعيدة وذاتية واعية وكيف لا والنبي (ص) يقول : " إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها "

وقد قيل في الحكمة : بقدر ما تتعنى تدرك ما تتمنى .. فكيف بمن أمنيته الجنة !!

يقول ابن قتيبة : صاحب الهمة إن حُطّ فنفسه تأبى إلا علوا كالشعلة من النار يصوبها صاحبها فتأبى إلا إرتفاعا ..

بعد وفاة النبي (ص) حدثت ردة ضخمة في جزيرة العرب ورجع السواد الأعظم عن الإسلام ودخل عمر بن الخطاب على أبو بكر رضي الله عنهما ليعدل به عن فكرة محاربة المرتدين فيقول له : والله لو لم يكن في المدائن غيري لأنفذته والله لأقاتلنهم ما استمسك السيف بيدي حتى تنفرد سالفتي ..

وحقيقة أقول إن المعاني والأفكار قد تؤثر حينا ولكن إن ما يجعلها تمثل واقعا من حياة الناس أن تعيش هذا المعنى أو أن تنظره في عين أو مشاعر من عاشه بصدق .. حكى لنا بعض من عايش الأستاذ عبد الفتاح الشريف رحمه الله أنه جاءه يوما شاعرا بثقل التكاليف الملقاه على عاتق الأستاذ وهو الشيخ الكبير الذي جاوز التسعين والرغبة تملأه في التخفيف عنه ورأى ذلك الأستاذ رحمه الله منه فقال له كلمة أبو بكر : لأقاتلنهم ما استمسك السيف بيدي ..عندها فقط شعرت بهذا المعنى وفهمت على أي وجه قيل .

والأستاذ رحمه الله من تلاميذ البنا الإمام المؤسس الذي سأل عن أجمل بيت أعجبه في العربية فأفصح عن مكنون قلبه وطبيعة شخصيته عندما قال : قول طرفة بن العبد في معلقته :

إذا القوم قالوا فتى خلت أني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

وما ذلك بدعا في تاريخ هذه الأمة فسيف الله خالد قالها عندما سأل عن أحب الليالي إلى قلبه فيقول : ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب أحب إلي من ليلة شديدة البرد أصبح فيها العدو ..

ولعلنا تطرقنا إلى ذاتية نعيم ابن مسعود الذي أسلم للتو فعلم أنه مسؤل ومسائل فكانت ذاتيته جزء من إرادة الله فيه كجندي من جنود الحماية الربانية ..

3 . الجدية الإيمانية والدعوية .. فارس لا يترجل

مقالة قيمة ضمنها الراشد في رسائل العين أشير إليها وليس في الإشارة عن قرائتها غناء .. قال : } لابد للدعوة من داعية لا يستريح وفارس لا يترجل فهو آخذ بذمام فرسه طائر على جناح السرعة ينبئك عن حاله المشبوب المهموم حديث الرسول (ص) : الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال : " .. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن أستأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع " .

أو ما يفصله النبي (ص) في رواية " من خير معاش الرجل رجل آخذ بعنان فرسه يطير على متنه كلما سمع هيعة طار إليها يبتغي الموت مظانة "

ذلك الفارس والداعية همه متميز متفرد عن هموم الناس فإذا سارت هموم الناس في أفلاك شهواتهم سار نجم همه في أفلاك دعوته فهو في نهاره هاجم , وفي ليله قائم , وفي سره عامل , وفي جهره داع , ليله ونهاره في هم واحد - هم هذا الدين - فهو في قيام لا يهدأ معه وفي ركوب لا نزول معه يصل ليله بنهاره ونهاره بليله .. {

والبنا رحمه الله يصف هذا النموذج المتميز المتفرد من الدعاة الجادين فيقول : قد سهرت عيونهم والناس نيام وشغلت نفوسهم والخليون هجع وأكب أحدهم على مكتبه من العصر إلى منتصف الليل عاملا مجتهدا أو مفكرا مجدا ولا يزال كذلك طوال شهره حتى إذا ما انتهى الشهر جعل مورده موردا لجماعته ونفقته نفقة لدعوته ولسان حاله يقول لبني قومه الغافلين عن تضحيته " لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الله " .

وإن الوصف القرآني لأصحاب الجدية الإيمانية : " كانوا قليل من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون "

وصاحب الظلال يعلق على قوله تعالى : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " يقول : وأ,ل ما تفسد النفوس باركود الذي تأسن معه الروح وتسترخي معه الهمة ويتلفها الرخاء والطراوة ثم تأسن الحياة كلها باركود أو بالحركة في مجال الشهوات وحده .. "

هي حقيقة إذا يختبرها كل من اتصل بالعمل الإٍسلامي يعبر عنها الراشد بقاعدة عظيمة يقول : [ إن محنة الداعية اليوم لا تكمن في معارضة الباطل له ولا في سجنه وتجويعه ومصادرة أمواله وإبعاده وتعذيبه بقدر ما تكمن في استرخاء همته والتلذذ بالراحة .. وفي المقابل : وما انتصار الداعية إلا في أن تعاف نفسه كل ما لا يؤثر في نجاح دعوته ]

ومن ثم يقدم النموذج : الإمام أحمد الذي سأل متى يجد العبد طعم الراحة قال : مع أول قدم يضعها في الجنة

ويسأل يا إمام إلى متى مع المحبرة فيقول مع المحبرة حتى المقبرة ..

ويترجمها واقعا حيا في أيام محنته حتى قال لابنه : يا بني لقد أعطيت المجهود من نفسي ..

فيعلق الراشد فيقول : [ فحدا بذلك حدا لا يسع الداعية الجاد النقصان فيه ولا التخلف عنه فعلى الداعية بذل المجهود من نفسه واستفراغ كل طاقته في خدمة دعوته وعلامته حين المحن الصبر على الأذى حتى الموت وعلامته في حياتك اليومية أنك إذا أويت إلى فراشك ليلا لتنام وجدت لركبتيك أنينا ولعضلاتك تشنجا من كثرة ما تحركت في نهارك .. ]

ومن قبل الإمام أحمد أستاذه الشافعي الذي قال: إن طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات فإن أحدهم لا يزال تعبان في كل زمان ..

وتصف فاطمة بنت عبد الملك زوجها عمر بن عبد العزيز فتقول : كان قد فرّغ للمسلمين نفسه فكان إذا أمسى ولم يفرغ من حوائج يومه وصل يومه بليلته حتى أن أصحابه من أهل التقى سألوه يوما أن يفرغ لهم نفسه فقال : وأين الفراغ ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله ..

هو جزء من الحقيقة أدركت ويبقى في ظلال هذا المعنى الجوهر الغالي بعد من الأفكار والمقصودات ولعل فيما كتبت الإشارة إلى هذا المعنى الذي لست بأول من تحدث فيه ولكنه كان كلمة وقعت في نفسي في درس ضمنتها كراسي منذ تسع سنوات أستحضرها اليوم بعد أن جربت طرفا منها في واقع سيرة النبي وما أثر عن رجالات هذه الدعوة , ولعل أخ كريم يقرأ هذا المعنى فيلقي الله في قلبه شيء فيفيض قلمه بما يعزز هذه المعنى ويثبته في نفوس الدعاة .

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ..

د. محمد النعناعي

هناك 4 تعليقات:

أحمد معروف يقول...

السلام عليكم يا دكتور نعناعي
أظن أني أعرفك كويس
وإن شاء الله حيكون بنا تواصل

من الحماية الربانية ما حصل في الهجرة مع أن المشركين وصلوا إلى الغار ومرة تانية سراقةوصل للرسول بس ربنا تدخل ولم يصلوا للنبي صلى الله عليه وسلم

تدوينة جميلة شكرا يا دكتور

mohammed salah يقول...

السلام عليكم:
تدوينة قيمة.. والحقيقة أننا في أمس الحاجة في الفترة الحالية إلى رجال اصطفاهم الله جنودا له
ولعل في حديثك عن الجدية الإيمانية والدعوية إشارة قيمة إلى أن البداية ستظل دوما وأبدا من محراب الليل فهل من طريقة لوضع آلية للمارسة ؟
جزاكم الله خيرا

راجي النور يقول...

جميلة جدا يادكتور أنا مدون قديم وعثرت على مدونتك بالصدفة وقرأت محتوى الموضوع واضح إنك بتخاطب نوعية معينة بالتدوينات دي أولا لأنها طويلة ثانيا مضمونها للمثقفين أوي بس عموما فكرة جميلة وموضع محترم أوي لو ممكن تتناول موضوعات بسيطة شوية بنفس العمق ده يبقى حلو أوي
مرة تانية شكرا يا دكتور فعلا بلا مجاملة فتحت لي سكة القراءة في الثقافة الفكرية

حفيد صلاح الدين يقول...

thank u Dr;mohamed & we wait mor from u ..